• ٧ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كأنّه البارحة

عبدالناصر فروانة

كأنّه البارحة

«كأنّه البارحة». هذا ليس مجرد عنواناً لمسلسل تلفزيوني، أو اسماً لواحد من أفلام الدراما، وإنّما يعكس حقيقة أنّنا نحن الأسرى المحررين ليس باستطاعتنا نسيان الألم. فالألم باقٍ ولا ينتهي بفعل الزمن.

مرّ ثلاثون عاماً على اعتقالي للمرة الرابعة، لكنّني ما زلت اتذكر تلك الليلة بتفاصيلها، كانت في مثل هذا اليوم من عام 1989، وكيف يمكن لي أن أنساها والذاكرة تحتفظ بتفاصيل أحداثها في الساعات الحالكة، وما مورس ضدي من تعذيب في أقبية التحقيق خلال الشهور الأُولى من فترة سجني تلك التي امتدت لسنوات طوال. أنا الأسير المحرر الذي كلّما مرّت الذكرى، تذكرت ذاك اليوم وكأنّه البارحة، فيزداد ألمي وقهري. وكيف يمكن أن تُمحى تلك الأحداث المؤلمة والمزعجة من ذاكرتي، وآثار التعذيب تلاحقني والمُعَذِبين طُلقاء؟.

أذكر جيِّداً أنّه في ليلة الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر1989، داهمت قوات الاحتلال المدججة بالسلاح ورجال المخابرات الإسرائيلية، بيتنا الصغير الكائن في حارة «بني عامر» القديمة في حي «الدرج» العتيد وسط مدينة غزة، وقاموا بتفتيشه والعبث بمحتوياته، وقالوا لوالداي: خمس دقائق وسيعود.!

أخذوني إلى خارج البيت، كبّلوا يداي ووضعوا عصبة على عيناي وألقوا بي في جيب عسكري واقتادوني إلى جهة مجهولة، إلى أن وصلت إلى سجن غزة المركزي «السرايا»، وبعدها زج بي في زنازين ضيقة وقذرة لا تدخلها أشعة الشمس، بقسم التحقيق هناك، الذي كان يُعرف بـ«المسلخ»، لما عُرف عن قسوته وشدة التحقيق والتعذيب فيه. وأُمي ومعها والدي ينتظران عودتي بعد انقضاء الخمس دقائق، وقد عُدت إليهما بالفعل ولكن بعد خمس سنوات.!

تجربة اعتقالية كانت هي الأقسى من بين تجارب الاعتقال التي مررت بها في حياتي، حيث مكثت مائة يوم متواصلة، بين المسلخ القاتل والزنازين الضيقة المعتمة، تعرّضت خلالها لصنوف مختلفة وبشعة من التعذيب الجسدي والنفسي، ومكثت فيما يُطلق عليه الأسرى «الثلاجة» أيّاماً وليالي طوالاً. وما تزال ماثلة في عمق وعيي صورة المحقق المستمتع بتعذيبنا، وكذلك موت الأسيرين خالد الشيخ علي وجمال أبو شرخ اللذان استشهدا على يدي ذات المحقق، في تلك الأيّام العصيبة.

تلك التجربة التي امتدت إلى مئة يوم من التعذيب المتواصل داخل أقبية التحقيق، كانت فترة مؤلمة ومعاناتها قاسية، وكلّ مَن عايشها يُدرك ما أقول، فلطالما تمنيت خلالها الموت مرة واحدة، كي لا أموت ببطء مرات ومرات عدة، وهي تجربة شخصية تتشابك بالتأكيد مع التجربة الجماعية لكلّ الأسرى الفلسطينيين؛ وهناك من التجارب أكثر قسوة، وقد تكون تجربتي هذه أقل مرارة من غيرها، إذ أنّ ما من فلسطيني مرّ على سجون الاحتلال ودخل زنازينها، إلّا وتعرّض للتعذيب. وما من معتقل عُذب إلّا وقد بقيت صورة المُعذِب عالقة في وجدانه، محفورة في ذاكرته.

لقد عشت وعاش الآخرون تجارب لا يمكن تصوّرها، بل ويصعب على الإنسان تخيلها ووصفها، واستمعت لشهادات عديدة روت فظائع الموت، التي تملأ السجون الإسرائيلية، من أُناس قُدر لهم أن يخرجوا من السجن أحياء، وكان حديثهم يفيض بالألم والمرارة.

فلقد أفاد هؤلاء الناجون من الموت بأنّ أشكال التعذيب في السجون قد تطوّرت أساليبها، وتنوّعت أشكالها الجسدية والنفسية والتي لا يمكن الفصل بينهما، وأنّ آثارها تغولت في الروح والجسد لتمتد إلى ما بعد فترة الاعتقال، لتلحق أضراراً بعيدة المدى بالصحّة الروحية والنفسية والجسدية، وقد يصعب استئصال موطن الألم الجسدي أو النفسي، وهنا يكمن جوهر فظاعة التعذيب.

إنّ التعذيب بشقيه الجسدي والنفسي، لم يكن يوماً حادثة عفوية أو فردية، تُمارس داخل غرف التحقيق في هذا السجن، أو في محيط ذلك المركز المخصص للتوقيف، وإنّما شكّل نهجاً أساسياً وممارسةً مؤسسيةً، وجزءً لا يتجزأ من معاملة المعتقلين الفلسطينيين اليومية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويشارك فيه كلّ مَن يعمل في المؤسّسة الأمنية، وبشكل مباشر أو غير مباشر ينضمّ إليهم العاملون في مهنة الطب، بما يتنافى وأخلاقيات ومبادئ مهنتهم (الإنسانية).

إنّ تأملاً متمعناً في ممارسات محققي جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك)، يجعلك توشك أن تظنّ بأنّهم ليسوا بشراً، لأنّ هذا الحجم الهائل من القسوة، التي تظهر على وجوههم، حين يرون ضحيتهم يتألم، يجعلك تعتقد ذلك. لا شكّ بأنّهم قد وُلِدوا، كما يولد الآخرون، من أُمّهات من البشر. إنّهم يبدون لك للوهلة الأُولى ناساً من الناس. لكنّك حين ترى كم هم عصبيون في تصرّفاتهم، وكم هي قاسية تعبيرات وجوههم، تبدأ في مساءلة نفسك: هل هؤلاء اللذين يتضاحكون لسماعهم صرخات الألم، ويتباهون بذلك فيما بينهم، ويبتسمون وهم يراقبون عذابات ضحاياهم، يمكن أن يكونوا بشراً؟

أنّهم مرضى نفسيون، وإنّ هؤلاء المرضى يشعرون بسعادة غامرة، حين يرونك تتقيأ من شدة الألم، أو تتدهور أوضاعك الصحّية، فتوشك على الموت، ثمّ لا يكتفون بالامتناع عن تقديم المساعدة، بل يركلونك بأقدامهم، كما لو كنت كلباً في دول لا تحترم حقوق الحيوانات!.

أيّها الناس: أظنّ وأكاد أن أجزم أنّ كلّ مَن كان منكم معتقلاً في سجون الاحتلال، هو مثلي لا زال يحتفظ في ذاكرته تفاصيل ما تعرّض له من تعذيب على أيدى أُولئك «المحققين» وكأنّه البارحة.

ويبقى «التعذيب» جريمة لا تسقط بالتقادم...

ارسال التعليق

Top